Monday 22 June 2009

خواء..


يقولون أن الموت راحة...و ما أدراهم ؟

أبعد كل هذه الحياة ماتزال بداخلك روح المغامرة لتخاطر و تنتقل إلى عالم آخر لا تدري عنه شيئًا؟! و ما يدريك لعلك تجد فيه أسوأ مما تعانيه الآن ؟!

هل ما تزال تلك الرغبة تساورك ؟ هل تريد بالفعل التخلي عن حياتك ؟ ستفارقك روحك إن عاجًلا أو آجلا ..شئت أو أبيت..إنها الحقيقة الوحيدة المؤكدة...
الكل فانٍ و أنت منهم..لكنك الآن تتخلى عن حياتك بيديك..ربما يكون الندم نهاية هذه الطريق و عندها لا سبيل للتراجع..فلتترك الأمور على نصابها و عندها لن تضطر للتخلي عن شئ و الندم عليه.

تحادثه نفسه بذات الخاطر يوميًا..تذكره بالانتحار كالحل الأمثل للخلاص من كل ما يؤرق جفنيه ليلًا..
ثم تعاود نفسه الرد على نفسها مخوِّفة إياه من ذات الفعل..
لا..لم يكن يخاف عاقبة الانتحار في الآخرة..فلم يكن يعطي آخرته جزءًا من دنياه في الأصل ..لكن نفسه كانت تذكره بأى ذكرى باسمة عاشها في هذه الحياة.

تقام مناظرة داخل عقله بين الرأيين..تجادل نفسه نفسها ..و يحاول أن يزن هو الأمور
يعدد ما سيخسر و ما سيكسب..تمامًا كما علّمته مهنة التجارة في دنياه..
هو أجبن من أن يترك حياته مهما سئم منها..و هو أكثر طمعًا من أن يترك لحظة لا يظفر
بها في هذه الدنيا..
لذلك كان يقف كل يوم في المطبخ ممسكًا بسكين يوجهه إلى قلبه و يشتعل الصراع داخل نفسه..
يحاول أن يقوم بتلك الخطوة لكن يديه تتجمدان على نصل السكين تأبيان الحركة..
ذات مرة جرحه نصل السكين و أدماه..وقف يراقب الدم ينساب على جلده ببطئ
ثم ترك السكين ليعود إليه في الغد و يقف نفس وقفته..
------------------------------------
تسأله زوجته عن سبب الجرح في صدره..يجيبها أن أحد الصبية في متجره جرحه بدون قصد
تعقد حاجبيها متألمة له..و يعتصر قلبه الألم..كره اضطراره للكذب عليها..
-------------------------------------
- أبي...
يطالعه وجه ولده الصغير..يرى ابتسامته تتلاشى و تتحول إلى نظرة رعب تركزت على السكين في يده
يرى عينيه ترتفعان لتلقيا عينيّ الأب و تجلداهما بعلامات استفهام ملئتهما..
يكرر ابنه نداءه بصوت مختنق و هو ينظر إلى والده...
- أبي...
لا يستطيع ترك السكين من يده كأنما صارت جزءًا منها..ولده مايزال ينظر إليه و الرعب لا يفارق عينيه..
انحنى ليكون في مستوى ابنه و تشتد قبضته اليمنى على السكين و هو يحتضن ولده بذراعه اليسرى
انزلقت السكين من يمناه و أحاط ولده بكلتا ذراعيه..أخذ يبكي كما لم يبك قبلًا..التقطت أذناه ضحكة ابنه..
نظر إليه فإذا بابتسامة واسعة ارتسمت على شفتيه..
سأله..
- تضحك ؟!
اتسعت ابتسامة الفتى و قال..
- لقد احتضنتني..
صدمته الكلمة...إنها فعلًا من المرات القلائل التي يحتضن فيها ولده..
أخذ يكرر الكلمة..ولده..ولده..إنه ابنه بالاسم فقط..بحث عن أى ذكرى سعيدة ضمتهما معًا..تتدافع الصور في مخيلته..
صورته هو عائد من العمل..صورة الابن و على شفتيه ذات الابتسامة..صورته و هو يرد على ابتسامة ابنه بنظرة غاضبة من عينيه..الصور تتدافع و تدفع معها الدموع من عينيه..

ينظر إليه الابن باستغراب..
-أبي...لم تبكي ؟!
يضمه إليه في قوة..
-ولدي..
قالها لأول مرة..بصدق..
-----------------------
لا يستطيع النوم..لا يعرف كم مرّ من الوقت و هو راقد على سريره ينتظر النوم كضيف عزيز يهل عليه..
قام من السرير فجأة..فقط ارتدى نعليه و خرج إلى الشارع..لم يلتفت إلى برودة الجوّ..
قادته قدماه إلى الكورنيش ..عبر الشارع و مضى نحو البحر..انتبه أخيرًا أين هو..الشارع يلّفه سكون يخترقه صوت العربات الخفيض في تلك الساعة ..يتطاير رذاذ الأمواج فيصطدم بوجهه و يختلط بدمعه..
لم يدرِ ماذا يفعل..اتجه نحو البحر و عبر الحاجز الصخري..وقف و بلل قدميه بالماء..مشدوهًا ينظر لماء البحر تحت قدميه كأنه يراه لأول مرة..
في هدوء جلس على إحدى الصخور..ذهنه صافٍ كما لم يكن قبلًا..لا يستطيع الإحساس بشئ..حتى برودة المياه لم يحسها..

لم يعرف كم مرَّ من الوقت..قام من مكانه..عبر الحاجز الصخري عائدًا نحو طريق العربات..نزل من على الرصيف و خطا بضع خطوات..
ثم توقف فى مكانه..في منتصف الشارع..ينظر للسيارة القادمة بنظرات خاوية..لا تعرف قدماه هل تمضي أم تقف
لم يكن يفكر في شئ ..اقتربت السيارة..لم يكن خائفًا...
- لا..
نطقها ثم تحرك...عبر الشارع ..وصل إلى الرصيف الآخر..تقدم في الطريق نحو منزله..وقف أمام البناية و هو يستعدللدخول..

لكنه توقف...

أمسك بسلسلة مفاتيحه و استدار متجهًا نحو متجره و دس المفتاح في باب المتجر ..
اتجه نحو أحد الأرفف و التقط لعبة على شكل قطار..مسح من على وجهها التراب و اتجه نحو منزله..

صعد السلم بسرعة و فتح الباب .. في سعادة نادى على ولده...نادى على زوجته.. كانت الأنوار كلها مغلقة..نور المطبخ مضاء..اتجه نحوه و هو يردد اسميهما..

وجد زوجته جالسة على الأرض ..غارقة في الدماء تحتضن ولدها و هى تبكي في صمت..

سقط القطار من يديه و تلوث بالدماء..سقط على ركبتيه و هو لا يصدق ما تراه عيناه..
كان ابنه يحبه..كان يعتبره قدوته ...كان يقلّده في كل شئ..تذكر قوله الدائم له .." عندما أكبر سأصبح تاجرًا مثلك.."..
الصغير لم يكن يدري ماذا يفعل..أمسك السكين كما رأى أباه يفعل و سدد طعنته نحو صدره..

ضم ولده إلى صدره و هو يبكى..حمله بين ذراعيه..و ظل يحادثه كما يحادث الأب ابنه..تناول القطار و دسه في يد الطفل..
تقدم نحو غرفة الصبىّ..أزاح الغطاء من على السرير ..وضع الصبى عليه و قبله..ألقى على وجهه البرئ نظرة أخيرة ثم خرج و أغلق الباب...
---------------------------------
فى اليوم التالي..دفنت جثتان في قبر واحد..و بكت عليهما امرأة واحدة..